samedi, 08 août 2015
Camus sur Hiroshima
Albert Camus (1913-1960) sur Hiroshima. L'éditorial de Combat du 8 août 1945
Traduit en arabe par RAFRAFI
في مثل هذا اليوم وقبل 70 سنة بالضبط، الفيلسوف والأديب الفرنسي آلبير كامو (1913-1960) يكتب عن هيروشيما افتتاحية صحيفة "كومبا" (كفاح) بتاريخ 8 أغسطس/آب 1945
العالَم هو ما هو عليه، أي نذْرٌ يسير. هذا ما يعرفه الجميع منذ يوم أمس عبر العرض الهائل الذي انخرطت في تقديمه الإذاعة والصُّحف ووكالات الأنباء حول موضوع القنبلة الذرية.
وبالفعل، وفي خضم سيل التعليقات الحماسية، أخبرونا أن أيّ مدينة متوسطة الحجم يمكن تدميرها بالكامل بواسطة قنبلة بحجم كرة قدم. كما انخرطت صُحف أمريكية وإنجليزية وفرنسية في تحرير مقالات أنيقة حول المستقبل، والماضي، وحول المخترعين، والتكلفة، وحول النزوع للسِّلمية وآثار الحروب والعواقب السياسية وحتى حول الطابع المستقل للقنبلة الذرية. ولِنُلخّص ذلك في جملة واحدة: الحضارة الميكانيكية وصلت للتوّ إلى آخر مستوياتها من الوحشية. سيكون علينا أن نختار، في مستقبل قريب نوعا ما، بين الانتحار الجماعي أو الاستخدام الذكي للاستكشافات العلمية.
وفي انتظار ذلك، فإنه من الممكن أن نتصوّر أن هناك بعض البذاءة في أن يُحتفل هكذا باكتشاف جُعِل مبدئيا لكي يكون في خدمة الغضب الأكثر شراسة في التدمير من طرف الإنسان على مدى قرون عدة. أن يكون العِلْمُ في عالَمٍ متروك لجميع نكبات العنف، وعاجز عن أي تحكّم، وغير مكترث للعدالة ولسعادة البشر البسيطة، مكرّساً للقتل المنظم، فإن لا أحد دون شك، ما لم يكن أسير مثالية مستفحلة، سيخطر بباله أن يستغرب من ذلك.
على الاكتشافات أن يتم تسجيلها وتفسيرها وِفْق ماهيتها، وأن يتم إعلان ذلك على الملأ حتى تتوفر للإنسان فكرة صائبة عن مصيره. لكن أن تُحاط هذه الفضائح المروعة بأدبيات خلابة أو ساخرة، فهذا ما ليس مقبولا.
نحن، مُسْبقًا، لا نتنفّس بسهولة في عالم معذَّب. وها هو قلقٌ جديد يُعرَض علينا، ومن المرجح أن يكون حاسما. ودون شك ها هي البشرية أمام فرصتها الأخيرة. وربما سيكون ذلك في آخر الأمر مبررا لإصدار نشرة خاصة. ولكن سيكون ذلك بالتأكيد موضوعا لبعض الأفكار ولكثير من الصمت.
إلى جانب ذلك، هناك أسباب أخرى لأن نتلقّى بتحفظ الرواية المستقبلية التي ستقترحها علينا الجرائد. وعندما نرى المحرر الدبلوماسي لرويترز يُعلن أن هذا الاختراع من شأنه أن يجعل من المعاهدات أمرا قد عفا عليه الزمن أو يجعل من القرارات بما فيها قرار بوتسدام قرارات منتهية الصلاحية، ونراه يعلن أنه لا يبالي إذا كان الروس موجودين في كونيغزبيرغ أو الأتراك في مضيق الدردنيل، فإننا لا نستطيع إلاّ أن نضفي على هذا الاستعراض الجميل، نوايا غريبة بما يكفي، عن الحياد العلمي.
عسى أن تفهموننا جيّدا. إذا استسلم اليابانيون، بعد تدمير هيروشيما، بفعل التخويف، فنحن نفرح لذلك. ولكن نحن نرفض أن نستخلص من حدث خطير مثل هذا، شيئا آخر غير قرار الدفاع بحزم أكبر من أجل مجتمع دولي حقيقي، حيث لا يكون للقوى العظمى حقوق متفوقة على الدول الصغيرة والمتوسطة، وحيث تكف الحرب، تلك الآفة التي صارت فقط بسبب الذكاء البشري أمرا لا مفرّ منه، عن أن تكون مرهونة بأطماع أو بمذاهب هذه الدولة أو تلك.
أمام الآفاق المرعبة المفتوحة على البشرية، فإننا مازلنا نرى جيّدا أنّ السلام هو المعركة الوحيدة التي تستحق أن نخوضها. لم يعد هناك مجال للرجاء بل لأوامر تصدر من الشعوب تُوجِّهُها لحكوماتها، أوامر بأن تختار نهائيا بين الجحيم والتّعقل.
آلبير كامو
ترجمة من الفرنسية محمد الرفرافي
RAFRAFI
05:30 Publié dans actu, En arabe, Histoire, Pensée, Politis | Lien permanent | Commentaires (0) | Facebook | |
samedi, 12 juillet 2014
La France secourue par Gaza (2)
فرنسا تستنجد بغزة
(ترجمة لتدوينة كتبتها بالفرنسية / هنا / ونشرتها في هذه المدونة بتاريخ 4/1/2009)
"كَلاَّ، هذا العنوان ليس خطأ في الكتابة، لكن وفي الوقت الذي بدأ يشنّ الجيش الصهيوني عملياته الهجومية البرّية ضد القطاع بعد ثمانية أيام من القصف، فإنّه يبدو أشبهَ بالهذيان.
وفي الواقع، كنت أنوي الخوْضَ فيه قبل هذا الوقت. نعم، في بعض الأحيان يُعيد التاريخ نفسه، جزئيا أو مقلوبا أو كلاهما في وقت واحد. المُهم هو أن يُعلّمنا درساً. وسأشرح قصديَ...
خلال الأزمة النقدية في أوروبا ما بين 1650 و1730، والناجمة عن انخفاض كمية الذهب القادم من أمريكا، استفادت فرنسا في ظل نظامها القديم، من قَرْض ماليٍ ودون فوائد، تلقّته من غزة.
فرنسا وبسبب تنافسها مع بريطانيا، كانت تسعى إلى تكثيف مبادلاتها التجارية مع المشرق، وقد اختار لويس الرابع عشر (ملك فرنسا)، الرحالة واللغوي الفرنسي "الفارس لوران دارفيو" (1635-1702) Chevalier Laurent d'Arvieux لأن يكون قنصله في الجزائر، ثم في حلب.
هذا الأخير كان على دراية بالمنطقة وكانت له مع ابن عمّه السيد بيرتاندييه علاقات جيدة مع الحُكّام والتجار العثمانيين والعرب ومنهم على وجه الخصوص مَن هُم مِن سوريا الكبرى (وكانت تشمل في ذلك الوقت سوريا-لبنان-فلسطين).
وبهذا تحديداً تمكنت فرنسا من الحصول على القرض بدون فوائد (باعتبار تحريم الربا) مَنَحَهُ لها حاكم غزة "حسين باشا" الذي مكّنها أيضا من تسهيلات وتوصيات لدى التجار المحليين.
في مذكراته، حيث، من بين الأشياء التي رواها، ازدهار الحياة في غزة، روى "لوران دارفيو" أيضا قصة هذا القرض الممنوح من أمير غزة إلى فرنسا.
وقد اخترت في هذا السياق، فقرة من مذكراته (انظر الصورة) وهي مكتوبة بفرنسية ما قبل الكلاسيكية:
"رحلة غزة
..أشرت أعلاه أن "حسين باشا"، حاكم غزة، قد تكرّم بأن يمنحَ للأمة الفرنسية، مبلغاً كبيرا دون فوائد، وذلك لتسديد مبلغ الجِزية الكبيرة التي كان فرضها حسن آغا، حاكم صيدا. كانت التجارة قد شابها آنذاك كساد كبير إلى حد أنّنا ولفترة طويلة لم نتمكّن من تسديد هذا المبلغ، ممّا حدا بحاكم غزة إلى أن يكتب في آخر الأمر، مُضطرًّا، للقنصل مؤكدا على احتياجه إلى أمواله، وراجيا أن تُرسل إليه دون إبطاء.
حينئذ أسرع القنصل إلى تسديد ما نحن مَدينون به لهذا الباشا صاحب الفضل، وجهّز أربع سُفن فرنسية في الميناء، من أجل إرسال المبلغ المطلوب؛ وعندما صار المبلغ جاهزاً، تمّ تحميله على متن سُفن البلد، التي أبحرت إلى راما (الرملة: مدينة في فلسطين) تحت حراسة السيد "أنطوان سوريب" مع بعض الفرنسيين الذين استوجب أن يتعرّف الباشا عليهم.
كان السيد سوريب صديقا مُقربا من هذا الباشا؛ قدّم مبلغ المال لهذا الأخير وتمّ شطْب الدَّين، وتمّ كلّ ذلك بكثير من التّأدب من جانب كِليْ الطّرفين.
عند اجتماع القنصل مع رجال الأُمّة بعد عودة السيد سوريب، تبيّن أنّه لم يكن يكفي تسديد المبلغ الرئيسي؛ بل كان لا بدّ من تبليغ باشا غزة بأواصر الامتنان التي نكنّها تجاه سَخائه الخارق للعادة والذي أبداه تُجاهنا في تلك المناسبة. فجهّزنا لذلك عددا لا بأس به من السترات الواقية مصنوعة في البندقية (فينيسيا) بألوان مختلفة؛ وأضفنا إليها كميات من القماش القرمزي ونسيج السّاتان والمُوسِلين، وكميات من السكر والشموع وبعض الهدايا.
وقد تم اختيار السادة "سيزار رافالي" و"جان-باتيست كامبون"، لمرافقة السيد سوريب الذي كُلّف بالذهاب إلى باشا غزة وتقديم هذه الأشياء المهداة إليه من القنصل ومن الأُمّة (الفرنسية). وقد انضمَمْتُ إلى هؤلاء النواب الثلاثة من أجل رؤية فلسطين، والقيام بالرحلة برًّا..."
(من مذكرات "شوفالييه دارفيو")
___________________
من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن نسيج الشاش المستعمل للتضميد والمنسوج حاليا في فرنسا (بعد أن كان يتم استيراده من غزة منذ نهاية العصور الوسطى) هو نوع من القماش التي يستمد اسمه بالفرنسية la gaze من مكان تصنيعه الأول أي: غزة.
وعندما نعرف أن الشاش (انظر الصورة) صار يستعمل أساسا في مجال الطب (كضمادات وكمادات) فلا يسعنا سوى أن نرثي لحال غزة التي لم تعد تجد من الشاش la gaze ما يكفي لتضميد جراح أطفالها، جرّاء القصف الصهيوني.
محمد الرفرافي
تويتر : @RAFRAFI_MED
21:12 Publié dans actu, En arabe | Lien permanent | Commentaires (0) | Facebook | |
jeudi, 07 novembre 2013
Soucis de terroir natal (9)
Quelques jours après le "détrônement" de Bourguiba le 7 novembre 1987, j'ai publié un billet de satire en langue arabe intitulé "Adieu le Habib (le bien-aimé) de ton époque" (Voir image ci-contre) dans l'hebdomadaire Al-Moustaqbal, paraissant à Paris. Vingt-six ans après, je propose ici pour mes visiteurs arabophones à lire ou relire ce billet:
من دفتر الوطن
وداعاً حبيبَ عَهْدك
محمد الرفرافي
كانَ يصْعُبُ عَلَيَّ منذ حداثة سِنِّي، أن أراك تُشبِهُ غيْرَكَ. وكان اسمك حين كنتُ أهتِفُ بحياتِك وأنا صغير، هُتافا طُفوليًا مَرِحًا، اسمًا مُتميّزا بِنُطْقِه اللاَّتيني وَبِوَقْعِه المُتناغمِ مع كلمة «يَحْيَا». وكان يُخَيَّلُ إليَّ أنَّ يَحْيَا لا بدّ أن تَتْبَعَها بورقيبة (بِقلْب القاف إلى جِيمٍ «مَصْرية»، مع تفْخيم الباء الثانية) لم يكنْ اسمُك في مُخيِّلَتي اسما عاديا بين الأسماء. كان اسمًا أليفًا كتحية الصباح ومُشاعًا كلفْظة الدّينار. وفي نفس الوقت كان يبدو لي غريبًا مِثْل بَلَدٍ بعيد ومُخيفا مثل لفْظة الشُرطي... لم يكن اسمُكَ مُنفصلا عن صورتك، وعندما كنتُ أراك مارًّا في موْكبِك أوْ أرى صُورَتَكَ في العُمْلَة أو في الصُّحف أو في «بوسترات» الحائط كنت أقولُ صامتاً: إن بورقيبة هو هذا الرّجل وأنّ هذا الرّجل هو بورقيبة.
كانت قامَتُكَ القصيرة تبدو أطْوَلَ من باعِ البَعْض في التعليق والتَّنَدُر. وكان لونُ عينيكَ وبَشْرَتَكَ يُثير دهشتي وارتياعي. كنتَ تختصرُ بِزُرْقَةِ عينيكَ ملامحَ فرنسا، وتختصرُ بِطُرْبوشك «الاسطنبولي» الأحمر، ملامحَ تونس العثمانية. كنتَ مِثْلَ بَلَدِكَ، مَزيجًا غريبًا من عَهْدين: الحُسَيْني والفرنسي ومن ثقافتين: واحدة محلية ترتكزُ على عُروبةٍ «مُتَوْنَسَة» وأخرى غربية أساسُها عقلانية ميكيافلية مع نزْعة ليبرالية على الطريقة الوَفْدِية. وبتعبير آخر كنتَ التَّوْليفَ الأمْثلَ بيْن الباي والمقيم العام الفرنسي. بل كنتَ «أتاتورك» التونسي الذي حَوَّلَ بَلَدَهُ في آخر عهْدهِ إلى رجُلٍ مريض.
لمْ يكُن وَالِدي، الحِرَفِي أبًا عنْ جَد، يُحدِّثُنِي عنك أكثرَ مِمّا كان يُحدّثني عن عبد العزيز الثعالبي وعن رفاقِكَ صالح بن يوسف والحبيب ثامر والباهي الأدغم وفرحات حشاد. وأيضاً عن تشرشل الذي كانت تحْلُو لَهُ مُقارَنَتك بِهِ وبِسَبَبِ تَرْبِيَتِه المحافظة لم يكن أبي يستسيغ دعْوَتَك إلى نَزْع حِجاب المَرْأة أو إلى الإفطار في رمضان. ومع ذلك، واستجابة لنداءات الإذاعة التي تُعلن في الأعياد الوطنية عن جَوْلاتِك في شوارع المدينة، لم يكن أبي يترَدَّدُ في رفْع العَلَمِ التونسي ومَعَهُ عَلَم الجزائر التي لم تكُنْ نالَتْ استقلالها آنذاك بَعْد، فوق دكان حِدادَتِهِ الذي انتَزَعَه مِنْه فيما بعْد أحدُ الذين استفادوا مِن عهْدك واغتَنَوْا من سياستك. وكان أحدُ أعمامي لا يُدين في عهْدِك بالولاء إلاّ لجمال عبد الناصر ولإذاعة "صوت العرب" التي كان لا يفتَحُ الراديو إلاّ من أجلِها. ومع تدهورِ علاقاتِك مع القاهرة، صارت "صوت العرب" تبدو لي وكأنّها إذاعة «مُحَرّمَة» لا يسمعُها إلا المغضوب عليهم. وأذكر أنني سألتُ أبي مرّة عن جارِنا الحَلاّق الذي كان أبي قدْ قال لِي عنْه بأنّه شيوعي. سألتُه عن معنى هذه الكلمة، فأجابني: أي الذي لا يؤمن بالله. وأذكرُ أني سألته أيضاً عمّا إذا كان جارُنا من «جماعة بن يوسف» مِثْلَ عَمْ فُلان، فكان ردُّهُ بالنّفْي مُضيفا بأنّه ليس دستوريًا مثلهم. فقلتُ مُتعجِّبًا: ألاَ يخافُ من بورقيبة إذن ؟ فأجاب مُنْهِيًا الحوار: لا خوف إلا من الله.
كان العلم التونسي بِهِلالِهِ ونَجْمته الحمراء و«المُشتق» من العلم العثماني، يبدو لي وكأنّه رِداءُ حُضورِكَ ولوْنُ انتشارِك. كان هذا العَلَم وكذلك النشيد الرسمي (ألا خلِّدي...) الذي حَفِظْتُه وأنا صغير، هُمَا الجَناحان اللّذان تُحَلّق بِهما صورَتُكَ في الذِّهن. كانا يَبْدُوَان لي مِثْل أُكْلة شعْبية. وكانا يُرافقانِك خارج تونس مِثلما يُرافق وَالِدَتِي خارج البيت حِجَابُها وصَوْتُها.
استطعتَ أيضاً أن تقنعَ العديدَ مِن مُواطنيك بـ «قِزَمِيَة» مُعارضيك وبِكونِهم ليسوا سوى «أبناء ضالين» إلى حد أنّه بات من الصّعب، منذ المحاولة الانقلابية في بداية الستينات، أن يتصوّرَ رَجُلُ الشارع التونسي إمكانية وُجودِ مُعارِضٍ لَكَ قادرٍ على أنْ يَفْلَتَ كُلّيا ليس فقط من غضبِكَ بلْ ومِن عَفْوِك أيْضاً. لقد بات من الصّعب، حتّى وأنتَ شِبْهَ غائِبٍ عن الحُكْم في السّنين الأخيرة، أن يتصوّرَ المَبْهُورون بِكَ بِأنّ هناك مَن يُمكن أنْ يَمْلَأَ فراغَك حين ترْحل. لقد ملأتَ مرحلتَكَ مِثلما تمْلَأُ الشّمسُ نهارَها. وصار النّاظر إليك من أنْصارِك مِثل النّاظر إلى الشّمس حِين يُنقِل نَظَرَهُ إلى جِهة أخرى لا يَرى سِوى الظّلام.
إدمانُكَ في الحديث عنْ نفسك، عن تفاصيلِكَ وهُمومِكَ الصّغيرة وأنتَ صغير والكبيرة عندما كَبُرْتَ، عنْ أهلِكَ ومَعارفِكَ، عنْ أصدقائك وأعْدائك، عنْ أفراحِك وأحزانِك، عنْ مُرَكَّباتِك النفسية وعيوبِك الجَسدية (مُحاضراتُكَ أمامَ معْهد الصّحافة سنة 1974) عنْ تاريخ تونس الذي قلتَ عنْه بأنّه تاريخُكَ أنتَ وأنّه بدأَ فِعْلِيًا مُنذ وُلِدْتَ، وعنْ تونس التي قلتَ ذاتَ مرّة أنّك مسؤولٌ عنْ مَصيرها ليس فقط في الدّنيا وإنّما أيضاً في الآخرة... كلُّ ذلك كان يَدْفَعُ بِتونِسِيِّيك المُخْلِصين لَك إلى مزيدٍ من الانبِهار بِك، وأيضاً إلى التّقوقع داخلَ شخْصيتِكَ المُتفاقِمة ونرْجسيتك المُتعاظمة. ومِنْ خِلال ذلك كنتَ تُتَرْجِمُ بالقَوْل، قَناعَتَكَ بأنّك أنتَ تونس وأنتَ الدّولة، تمامًا مِثلما كنتَ تُتَرجم عمَليًا هذا التّماهي عندما كانت سِباحَتُكَ في البحْر صَيْفًا وتَنَزّهاتِك اليومية مَشْيًا، ورِحْلَاتُك الاستشفائية أحيانًا، وفَتَراتُ نقاهَتِك أحْيانا أُخرى «أخبارًا قومية» تتصدّرُ كلَّ أخبار العَالَم حتّى ولوْ كانت أخبارَ نِهايتِهِ. صحيحٌ أنّك لم تكُن الاستثناءَ الوحيدَ في عالَم السُّلطة، وأنّك لم تكُن طَفْرَةً في «تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السّلطان الأكبر» إلّا أنّك كنتَ جِدَّ مُخْتَلِفٍ على الأقل عنْ أسْلافِك في تونس، في بقائِك الأطْوَلَ في السّلطة.
... وأخيرًا ها أنتَ رحلْتَ قَبْل أنْ تَرْحَلَ... فلا تَكْتَئِبَ إنْ نَسِيَكَ مُستقبلُ تونس الّذي تأجّل، إنْ نَسِيَكَ يَاسَمِينُهَا القَادِمُ بِبَيَاضِهِ المُتَجَدّد، وزيْتونُها الّذي عاصَرَ كُلّ مَنْ جاءَ قبْلك... واطْمَئِن فَبَعْدَ «أُبُوَّةِ» عهْدِك، لاَ يُتْمَ في تونس بعْدك.
مجلة "المستقبل" الباريسية الأسبوعية
نوفمبر 1987
13:40 Publié dans actu, En arabe, Histoire | Lien permanent | Commentaires (0) | Facebook | |
dimanche, 12 février 2012
Soucis de terroir natal (8)
|
هل يمكن للمشرعين المنتخبين ديمقراطيا في البلدان الخارجة للتو من ربقة الطغيان، أن يتوصلوا إلى حسم خلافات الهويات والعقائد في مجتمعهم وعبور الباب الدستوري الأول بسلاسة وسلام؟ |
بقلم: محمد الرفرافي |
هذا الموضوع أملته المستجدات العربية الحاسمة التي وضعت العرب على سكة تاريخية مختلفة، حيث ما أن أطيح برؤوس السلطة في كل من تونس ومصر وليبيا حتى أثير موضوع إعادة صياغة دستور جديد يتماشى وتطلعات الشعوب نحو دولة ديمقراطية حقيقية تأتي بديلا عن الدولة "الدَمُ- قرَاطِية" الأُسْرَوِية وأيضا وفوق كل ذلك الفاسدة. وإذا وضعنا في الاعتبار ما أثير مؤخرا من سجال، وحامي الوطيس أحيانا، في كل من هذه الدول الثلاثة (ولاحقا في بقية البلدان العربية المؤهلة للمصير نفسه) حول ما ستتضمنه البنود المتعلقة بالهوية والعقيدة، فسيكون تناول هذا الموضوع من ضمن أولويات المرحلة التاريخية الجديدة التي قررت الشعوب رسْمَ ملامحها على أساس حقيقي ومتين من الحرية والديمقراطية. ولعله بالرجوع إلى دساتير الدول العربية المنضمة إلى عضوية جامعة الدول العربية، وربما أيضا أخرى غير المنضمة، قد نساهم في إثراء هذا السجال الذي سيكون في كل الأحوال خميرة لِوَعْي ديمقراطي مستقبلي، وذلك باستعراض البنود المتعلقة بهوية هذه الدولة أو تلك، بلغتها وانتمائها وبالعقيدة الرسمية المعلن عنها. مع التذكير فقط بأن دساتير بعض هذه الدول إما أنها مَلْغِية منذ عقود أي منذ استيلاء قادة "مُشَرِّعين" فيها على الربوع والرقاب، وليبيا في عهد القذافي مثال على ذلك، أو أنها دساتير مرشحة للتعديل الجذري بسبب حركات الانفصال العرقي سواء المُنجز منه مثلما في السودان والصومال أو المتطلع للانجاز مثلما في العراق وسوريا والجزائر والمغرب، وهذا ما لا نتمناه. وبالطبع لا يهدف هذا المقال إلى تزكية أو رفض قيام هذا الكيان الانفصالي أو ذاك، ومن ذلك مثلا دولة ما يسمى بالجمهورية الصحراوية أو دولة كردستان العراق أو دولة جنوب السودان أو جمهورية "أرض الصومال"، وإنما فقط إلى الاستدلال بما تتضمنه بنود الهوية والعقيدة في دساتير بعض هذه الدول، من تنوع قد يغذي مفاهيم دستورية أشمل. لمحة تاريخية ولغوية لكلمة دستور تجدر الإشارة بدءا، أنه منذ شريعة حمورابي الموضوعة في بلاد الرافدين قبل زهاء أربعة آلاف سنة ومرورا بالوصايا العشر في الكتاب المقدس التي جاءت بعض أجزائها مطابقة لهذه الشريعة، وصولا إلى بداية العصر الروماني (أواسط القرن الـ8 ق.م) لم تعرف البشرية مدونة قانونية مدنية متكاملة إلا حين اعتمدت روما أول دستور سمي "موس مايوروم" (mos majorum) ومعناه باللاتينية "عادات الأسلاف". وكان عبارة عن جملة مبادئ وتعليمات كانت منقولة شفويا وخاضعة للتطوير المستمر. ويرى المختصون أن هذا التطوير مكن الدستور الروماني من أن يكون نموذجا للدساتير الحديثة الموضوعة منذ القرن الثامن عشر ميلادي، بحيث جاءت بنية هذه الأخيرة مشابهة بل وحتى متطابقة مع هذا الدستور الذي انتقلت الكثير من مبادئه إليها، ومن ذلك مثلا مبدأ التوازنات والضوابط والفصل بين السلطات، والنقض، والتعطيل، والنصاب القانوني، وفترات الحكم، ودور المال ونزاهة الانتخابات. وحتى المعنى الاشتقاقي للعبارة الدالة على الدستور الروماني في اللغة اللاتينية إنما يعكس في حد ذاته مفهوم العمل الجماعي لإنجاز شيء ما. هذه العبارة اللاتينية مكونة من "كوم" cum ومعناها "معا" و"ستاتوياري" statuere وتعني إنشاء أو بناء. ويكون المعنى "الإنشاء أو البناء معا"، ومن ذلك تولدت عبارة "كونستيتيوشن" (حسب النطق الانكليزي) Constitution أي دستور. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن كلمة دُستور ليست عربية الأصل والبعض يرجح أنها فارسية جاءت عن طريق اللغة التركية، وهي كلمة مركبة من "دست" بمعنى القاعدة و"ور" بمعنى صاحب، وإن كانت عبارة "صاحب القاعدة" تعكس بعض الشخصنة لهذا المصطلح القانوني، فهي تتوافق مع ما رأيناه من علاقات "شخصية جدا" ربطت بين هذا الحاكم العربي أو ذاك بدساتير بلدانهم التي حولوها في أيديهم إلى "دساتير مرنة" كالصلصال. صحيح أن العرب لم يعرفوا على مدى تاريخهم دستورا آخر غير القرآن والمسيحيين من العرب غير الكتاب المقدس، وحتى دستور الخلافة العثمانية الموضوع سنة 1876 لم يصلهم صداه بشكل مؤثر بسبب تعطيل هذا الدستور بعد أشهر قليلة من إقراره ولم يعد ساري المفعول إلا سنة 1908، إلا أن تأثيرات الاستعمار الأوروبي من ناحية وبروز حركة "تركيا الفتاة" من ناحية ثانية، كانت وراء سعي الوطنيين والقوميين من العرب إلى استحداث دساتير عربية مستوحاة من دساتير أوروبا وخاصة منها الدستوران: الجمهوري الفرنسي والملكي البلجيكي. وهو مسعى يندرج في حركة إصلاح وتحديث تراوحت بين السلفية والليبرالية وانتشرت على امتداد الخارطة العربية. ومع هذا، هناك شبه إجماع لدى المؤرخين على أن أول دستور عربي مدني في العصر الحديث كان قد صدر في تونس. حيث أن حاكم الإيالة التونسية "محمد باي" كان قد استبق سنة 1857 "الباب العالي" (السلطة العثمانية) بإصداره لمدونة قانونية في شكل بيان عرف باسم "عهد الآمان"، وتضمن مقدمة وإحدى عشرة مادة، وتشير المقدمة إلى وجوب الاهتداء بأحكام الشريعة الإسلامية باعتبار أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة التونسية، وأن الباي والسكان مسلمون، مع التأكيد على منح الحقوق المدنية وحقوق لليهود وللأجانب في امتلاك الأرض. ولما خلفه أخوه الصادق باي (1859) تم تطوير "عهد الآمان" إلى دستور أعلن عنه رسميا في جانفي/ يناير1861، ونص هذا الدستور الذي صار يتكون من مائة وأربع عشرة مادة على أن الباي هو رئيس تونس والرئيس الأعلى فيها للشئون الإسلامية، وأن يكون الحكم وراثيا في عائلته. وبذلك كانت أول دولة في العالم العربي تأخذ بالنظام الدستوري. العروبة بين الأرض واللغة والجامعة من حيث المبدأ، تكون عضوية أي دولة عربية لجامعة الدول العربية مبنية على معطى أساسي وهو الهوية العربية لهذه الدولة. بعض دساتير هذه الدول يؤكد على هذا المعطى بمضمون إيديولوجي صريح. أما بعضها الآخر فلا يعكس هذا المعطى بل وأحيانا يغيب تماما. ويمكن القول أن هناك ثلاث أطر لهذا الانتماء: الإطار الإيديولوجي والإطار الحضاري والإطار الإقليمي أو الجيوسياسي. ضمن الإطار الإيديولوجي، تأتي الهوية العربية كمبدأ شبه منفصل عن بعده الإسلامي ومنغرس كليا في بعده الجغرافي واللغوي. وبعض الدساتير تذهب إلى حد التأكيد على ضرورة تحقيق هدف استراتيجي وهو الوحدة العربية. وفي هذا السياق وإذا ما بدأنا من مصر، فإنه رغم انزياحها الساداتي خارج السياق العربي وتكريس عهد مبارك لهذا الانزياح، فقد استمر دستورها المعدل أكثر من مرة منذ قيام ثورة يوليو/تموز، محتفظا بمادته الأولى من الباب الأول والذي ينص على تعريف دولة مصر كالتالي:"جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة. والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة." هذا التوجه القومي، سبق تأكيده سنة 1954 بما ورد في "وثيقة إعلان الدستور" التي جاء في بندها الثاني ما يلي:"الوحدة أمل أمتنا العربية: عن يقين بأن الوحدة العربية نداء تاريخ، ودعوة مستقبل، وضرورة مصير.. وأنها لا يمكن أن تتحقق إلا في حماية أمة قادرة على دفع وردع أي تهديد مهما كان مصدره، ومهما كانت الدعاوى التي تسانده." وتجدر الإشارة إلى أن آخر تعديل للدستور المصري قد تم باستفتاء عقب الإطاحة بمبارك. وتناول بالتعديل 9 مواد من بين 75 مادة لم تشمل تلك المتعلقة بتحديد الهوية والعقيدة. وربما سيعاد النظر في هذه الأخيرة حين يتم إقرار إعادة كتابة دستور آخر جديد حسب رغبة بعض القوى السياسية المصرية. بالرغم من خصوصية حالته الوطنية الاستثنائية والمعلقة بين سماء على الدوام ملبدة وأرض مصادرة، يأتي مشروع المسودة الثالثة لدستور دولة فلسطين المعدل بتاريخ 4 مايو 2003، ليؤكد على نفس هذا الأفق القومي الإستراتيجي، فيقول في المادة الثانية من الباب الأول: "فلسطين جزء من الوطن العربي، وتلتزم دولة فلسطين بميثاق جامعة الدول العربية، والشعب الفلسطيني جزء من الأمتين العربية والإسلامية، والوحدة العربية هدف يعمل الشعب الفلسطيني من أجل تحقيقه." وتكفي الجملة الأخيرة من هذه المادة لكي تضع الكيان الفلسطيني شعبا ودولة مؤجلة في سياق مشروع قومي لا ينسف فقط مشروع "أوسلو" المحتضر من أصله وإنما يضع الكيان الصهيوني في مأزق استراتيجي لا مفر منه. نفس هذه الخلفية الإيديولوجية نجدها أيضا في البنود الثلاثة من المادة الأولى من الباب الأول للدستور السوري المقرر بتاريخ 13/3/1973، والمطروح مؤخرا للتعديل، حيث نقرأ ما يلي: "الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها وهي عضو في دولة اتحاد الجمهوريات العربية. 1) القطر العربي السوري جزء من الوطن العربي. 2) الشعب في القطر العربي السوري جزء من الأمة العربية يعمل ويناضل لتحقيق وحدتها الشامل". إلى هذا التوصيف الذي لا يخلو من بعد قومي صريح، تأتي المادة الرابعة من نفس الباب الأول لتؤكد على أن: اللغة العربية هي اللغة الرسمية (للدولة السورية). ويبلغ هذا المعطى الإيديولوجي ذروته "الحزبية" مع المادة الثامنة من الفصل الأول من الباب الأول التي تقول: "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية". وكانت بالمناسبة المادة الأكثر إثارة لجدل سوري اشتد في خضم الحراك الشعبي الجارف. وقد تم إلغاؤها مؤخرا تحت ضغط الشارع السوري المستمر في حراكه. مع العلم أن الدستور السوري هو الوحيد من بين الدساتير العربية الذي كان يتضمن مادة تجعل من الحزب الحاكم معطى دستوريا، بحيث تكون معارضته مخالفة دستورية صريحة قد ترقى إلى مستوى الخيانة العظمى. أما الإطار الحضاري (بالمعنى التاريخي-الثقافي) وهو الثاني المشار إليه آنفا، فهو الذي اكتفت بعض الدساتير العربية بالاندراج فيه لكي تحدد هوية البلد وانتمائه. ويقتصر هذا الإطار على ذكر إما اللغة العربية كلغة هوية أو كلغة رسمية وإما الإسلام كانتماء روحي وتاريخي وإما الاثنين معا. لكن من دون أي أفق إيديولوجي استراتيجي إلا في حالة واحدة جاءت خارج الرؤية العربية، وردت في مقدمة دستور المملكة المغربية المراجع بتاريخ 13/11/ 1996، حيث نقرأ:"صفتها (أي المملكة المغربية) دولة إفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية". في الوقت الذي اكتفت فيه دساتير دول المغرب العربي بذكر الانتماء الإفريقي فقط بما في ذلك دستور المملكة الليبية، كآخر دستور قبل الإطاحة بالملكية سنة 1969. غير أنه في المجمل، تتبنى معظم الدساتير العربية مبدأ الانتماء الثقافي والحضاري للكيان العربي، وتعتبر اللغة العربية لغة وطنية رسمية، حتى ولو لم يضف بعضها صفة العروبة إلى هوية الدولة. في هذا السياق، وتحديدا على الساحة اللبنانية، ليس ما ورد في المادة الأولى (المعدلة بالقانون الدستوري اللبناني الصادر في 9/11/1943) من الفصل الأول بعنوان "في الدولة وأراضيها" والتي تقول: "لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة. أما حدوده فهي التي تحده حاليا"، هي التي تضع الدستوري اللبناني ضمن الإطار الحضاري المشار إليه، وإنما ما جاء في البند الثاني من الباب الأول تحت عنوان "أحكام أساسية" من المقدمة التي أضيفت إلى الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990، والتي تنص على ما يلي:"لبنان عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم بمواثيقها..." أن يتم ذكر الجامعة العربية فهذا تحصيل حاصل باعتباره الحد الأدنى في تحديد إطار الانتماء. لكن أن يتم التأكيد على عروبة لبنان وعروبة انتمائه، فهذا له دلالة سياسية بليغة خصوصا إذا ما وضعنا هذه المقدمة التي أضيفت في سياقها التاريخي، ألا وهو سياق اتفاقية الطائف التي تم توقيعها قبل ذلك بسنة (1989) والتي جاءت بنودها أشبه ببنود دستور تم تعديله، علما أنها تمت برعاية سورية واستضافة سعودية. طبعا لا يعني أنه أصبح هناك تطابق إيديولوجي بين دستوري لبنان وسوريا مثلا بحكم الجوار ونوعية العلاقة، لكن للسياقات والقوى السياسية تأثيرها المؤكد على المسار التشريعي سواء بهذا الاتجاه أو ذاك. ولعل مثال آخر لدستور دولة غير جمهورية وغير مجاورة لسوريا كدولة الإمارات العربية مثلا يؤكد انعدام ضرورة هذا التطابق، مع العلم أيضا أن الدستور اللبناني هو الوحيد الذي لا تتضمن بنوده أي إشارة إلى لغته الرسمية لا من قريب ولا من بعيد. وأيضا يجدر الذكر فيما يخص نفس هذا الدستور اللبناني، الصادر سنة 1926، هو أنه أقدم الدساتير العربية الذي بقي، رغم التعديلات المتلاحقة، ساري المفعول إلى يومنا هذا. وبالنسبة للدستور الإماراتي ففي المادة الأولى من الباب الأول يعرف هذا الدستور دولة الإمارات كما يلي: "الإمارات العربية المتحدة دولة اتحادية مستقلة ذات سيادة" ويضيف في مادته السادسة تعريفا يبدو وكأنه مستمد من أدبيات حزب البعث، "الاتحاد جزء من الوطن العربي الكبير، وتربطه به روابط الدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك وشعب الاتحاد شعب واحد، وهو جزء من الأمة العربية." وفي المادة السابعة من نفس الباب الأول يضيف أن "لغة الاتحاد الرسمية هي اللغة العربية". ويقترب من هذا التعريف ما ورد في المادة الأولى من دستور قطر حيث نقرأ أنها "دولة عربية ذات سيادة مستقلة. وشعب قطر جزء من الأمة العربية". هذه الصيغة العلمانية القطرية التي لا تضيف الصفة الإسلامية إلى هوية الإمارة نجدها أيضا في دستور دولة أخرى لا وجود فيها لطوائف دينية مثل الكويت الذي يقول دستورها في مادته الأولى "الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة تامة، ولا يجوز النزول عن سيادتها أو التخلي عن أي جزء من أراضيها. وشعب الكويت جزء من الأمة العربية." و"لغة الدولة الرسمية هي اللغة العربية" (من المادة الثالثة) لكن نجدها أيضا في دستور الأردن والمبرر واضح هنا باعتبار وجود طوائف مسيحية أردنية. لهذا تقول المادة الأولى من دستورها "المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ ولا يتنازل عن شيء منه. والشعب الأردني جزءً من الأمة العربية واللغة العربية لغتها الرسمية." لكن مع المادة الأولى من دستور البحرين، (المرشح مؤخرا لتعديل جديد باقتراح ملكي) تعود صفة الإسلامية (بمعنى المسلمة) للهوية العربية دون تحميلها بعدا ايدولوجيا قوميا أو إسلاميا. فنقرأ " مملكة البحرين عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة تامة، شعبها جزء من الأمة العربية، وإقليمها جزء من الوطن العربي الكبير" وعلى غرار دساتير سوريا والكويت والأردن يضيف الدستور البحريني نفس الجملة التالية "ولا يجوز التنازل عن سيادتها أو التخلي عن شيء من إقليمها". وتتكرر نفس هذه الصياغة البحرينية في المادة الأولى من دستور اليمن التي تقول "الجمهورية اليمنية دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة وهي وحدة لا تتجزأ ولا يجوز التنازل عن أي جزء منها والشعب اليمني جزء من الأمة العربية والإسلامية." مع الملاحظة أن عبارة انتماء الشعب إلى الأمة الإسلامية لم ترد إلا في الدستور اليمني ودستور دولة فلسطين المشار إليه سابقا. غير أن هذا الأخير كان أوضح في هذه النقطة حين حدد انتماء الشعب الفلسطيني إلى "الأمتين العربية والإسلامية" (كأمتين متباينتين) وليس إلى "الأمة العربية والإسلامية" حسب التعبير اليمني الذي قد يكون وضع كلمة "الإسلامية" كنعت ثان معطوف على "العربية" ويعود إلى "الأمة". وتتكرر هوية الدولة "العربية الإسلامية" مع الدستورين السعودي والعماني، حيث نقرأ أن "المملكة العربية السعودية هي دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة" وأن "لغتها هي اللغة العربية." وفي دستور سلطنة عمان تقول المادة الأولى منه الشيء نفسه "سلطنة عمان دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة". ضمن نفس هذا الإطار الحضاري لمسألة الانتماء والهوية نلاحظ أنه كلما اتجهنا نحو غرب الخارطة العربية كلما تراجع التأكيد على الهوية العربية وعلى الانتماء إلى الأمة أو الوطن العربيين. فمن دستور المملكة الليبية الذي ألغاه القذافي ثم انتهى الأمر بهذا الأخير إلى تبني الهوية الإفريقية، نقرأ في ديباجته أن المملكة هي "جزء من الوطن العربي" ثم إنها "قسم من القارة الإفريقية". وفي المادة (186) أن "اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة". ومن بين المفارقات في هذا الصدد هو أن دساتير دول أعضاء في الجامعة العربية مثل السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر وفي الجهة المقابلة موريتانيا، وجميعها منتمية بطبيعتها جغرافيا وبشريا إلى إفريقيا كقارة، هذه الدساتير لم تتضمن مع ذلك ولا حتى إشارة واحدة إلى الهوية الإفريقية ولا حتى إلى الانتماء لهذه القارة، بينما أشارت إلى ذلك دساتير ليبيا (الملكية) وتونس (قبل إبطال العمل بالدستور عقب ثورة 14 جانفي/ يناير 2011) وكذلك الجزائر والمغرب. فبعد دستور المملكة الليبية المشار إليه، ها هو دستور تونس الصادر سنة 1959 والمنتهي العمل به عقب الثورة، كما أشرنا، يذهب تقريبا في نفس الاتجاه، لكن دون أن يضفي على البعد الإفريقي طابعا هُوِّيَاتِيًا. ولم يذكر ذلك إلا في توطئة الدستور (ديباجته) وليس ضمن بنوده. في هذه التوطئة التي لم تكن لتتناغم تماما مع مجمل السياسة الرسمية لتونس البورقيبية وأيضا "البِنْعلية"، نقرأ أن "الشعب التونسي مصمم على توثيق عرى الوحدة القومية والتمسك بالقيم الإنسانية المشاعة بين الشعوب التي تدين بكرامة الإنسان وبالعدالة والحرية وتعمل للسلم والتقدم والتعاون الدولي الحر،- وعلى تعلقه بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربية وبالتعاون مع الشعوب الإفريقية في بناء مصير أفضل وبالتضامن مع جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة،- وعلى إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة تفريق السلط". ضمن إطار تحديد الهوية فإن أول ما تمكن ملاحظته من هذه التوطئة هو أن المقصود من عبارة "الوحدة القومية" هي "الوحدة الوطنية" أي التونسية وليس العربية، والترجمة الرسمية إلى الفرنسية لهذا الدستور وكما صدرت عهد ذاك تؤكد هذا المعنى l'unité nationale ، هذا فضلا عن الخطاب البورقيبي الرسمي الذي كرس مصطلح "القومية التونسية" بل وذهب إلى حد اعتبار الشعب التونسي أمة تونسية قائمة تاريخيا بذاتها وليس جزءا من الأمة العربية. وهذا ما يتعارض أصلا مع العبارة الواردة في التوطئة وهي "انتمائه (أي الشعب) للأسرة العربية". إذ كيف تنتمي الأمة إلى أسرة؟ عكس ذلك هو الذي يكون بالأحرى صحيحا. ذلك أن الجزء ينتمي إلى الكل، بينما العكس غير صحيح. ويتفرد الدستور التونسي مع دستوري السودان والصومال (سيشار إليهما لاحقا)، في كونه لا يمنح للدولة نعتا حقيقيا وملازما Intrinsèque وذا علاقة بالهوية القومية أو بالهوية الدينية. وحين نقرأ في الفصل الأول من الباب الأول أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها" نلاحظ أن كل من السيادة والإسلام والعروبة والجمهورية تأتي جميعها بمثابة نعوت سببية في مقابل النعت الحقيقي ذي البعد الأخلاقي والمعبر عنه بكلمة "حرة" وإلى النعت الحقيقي ذي البعد السياسي والمعبر عنه بكلمة "مستقلة" والعائدين كليهما إلى منعوتهما تونس. و لا يتبين الانتماء الهُوياتي لتونس إلا جزئيا وذلك من خلال الفصل الثاني من نفس الباب الذي يقول أن "الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة". وهنا فقط يتم التعبير عن الانتماء للعروبة عبر الانتماء إلى جزئها المغاربي. وتجدر الإشارة أن الدستور التونسي هو الدستور العربي الوحيد الذي لا يتضمن هذا التأكيد على رسمية اللغة أو وطنيتها. مع الدستور الجزائري لسنة 1989 والمعدل ثلاث مرات (1996، 2002 و2008) تدخل الأمازيغية كإحدى المكونات الأساسية للهوية الجزائرية، حيث نقرأ في ديباجة الدستور "...المكونات الأساسية لهويتها، وهي الإسلام والعروبة والأمازيغية" وهي الديباجة التي تضيف أيضا بشكل ملازم ولصيق بالأرض، كلا من الهوية العربية والمغاربية والمتوسطية والإفريقية حيث نقرأ "إن الجزائر أرض الإسلام، وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير، وأرض عربية، وبلاد متوسطية وإفريقية تعتز بإشعاع ثورتها..." ولأن الديباجة استفاضت في التعريف بهوية الجزائر فقد جاءت المواد الأولى من الدستور مقتضبة. وعلى غرار الدستور التونسي اقتصرت المادة الأولى على البعد السياسي، حيث نقرأ "الجزائر جمهورية ديمقراطية شعبية. وهي وحدة لا تتجزأ". ثم تأتي المادة الثالثة المتعلقة باللغة وفيها تأكيد على أن "اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية" وحسب تعديل 2008 أضيفت "المادة 3 مكرر" لتقول أن "تمازيغت هي كذلك لغة وطنية" وأن "الدولة تعمل لترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني". على خطى الجزائر عمدت المملكة المغربية من ناحيتها إلى إدراج البُعد الأمازيغي (البربري) في دستورها المعدل الجديد وهو نفسه الذي سبقت مراجعته سنة 1996، لكن وتحت تأثير موجات الاحتجاج والتغيير الثوري في البلاد العربية منذ مطلع 2011 قام الملك المغربي الذي امتدت موجة الاحتجاجات إلى مملكته، بتشكيل لجنة لتقديم توصيات من أجل تعديلات دستورية، توجت في ما بعد باستفتاء شعبي أقر نسخة جديدة للدستور تنص على توسيع نطاق صلاحيات البرلمان وعلى تقييد عدد من صلاحيات الملك لصالح السلطة التنفيذية. لكن ما يهم سياق هذا العرض هو أن الدستور الجديد لا يأخذ فقط في الاعتبار المكون الأمازيغي وقبله الإفريقي ثم "الصحراوي" (على أساس مغربية الصحراء ووادي الذهب)، والأندلسي (على أساس الموروث التاريخي) والمتوسطي (على أساس الجغرافيا) وإنما أيضا المكون العبري (اليهودي) المغربي وهذه سابقة في تاريخ الدساتير العربية. في هذا السياق تقول الفقرة الثانية من "التصدير" (الديباجة) ما يلي:"المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية." ونلاحظ هنا أن النعت الوحيد الحقيقي والملازم للمملكة هي "الإسلامية" (كما هي قبل التعديل) أما بقية النعوت فهي سببية. وفي مقابل عبارة "..وهي جزء من المغرب العربي الكبير" كما في الديباجة السابقة، نقرأ في الديباجة الجديدة "العمل على بناء الاتحاد المغاربي، كخيار استراتيجي" كما اختفت عبارة "وبصفتها دولة إفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية" لتحل محلها "تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولاسيما مع بلدان الساحل والصحراء". وفي الفصل الخامس من الباب الأول تم الاحتفاظ بالعربية كلغة رسمية للدولة، لكن أضيف لها ما يلي: "تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة، بدون استثناء..." وفي سابقة أخرى امتد التعديل الدستوري إلى إدراج اللهجة "الحسانية "حيث نقرأ في نفس هذا الفصل: "تعمل الدولة على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب" وحين نعلم أن "الحسانية" هي مجرد لهجة بدوية مشتقة من العربية كانت تتحدثها قبائل بني حسان الذين سيطروا على أغلب صحاري موريتانيا وجنوب المغرب بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر وأنها أقرب حسب المختصين إلى لهجة "وادي سوف" بالجزائر ولهجة جنوب تونس واللهجة الليبية، فإننا نتساءل عن مغزى إدراج هذه اللهجة في الدستور كلغة قائمة الذات!! ومن المفارقات العربية المعاصرة أن "الدولة العربية" الوحيدة التي يكفي اسمها وحده لأن يكون بندا دستوريا إضافيا هي وكما ورد في المادة الأولى من دستورها "وحدة لا تتجزأ، اسمها الرسمي: الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية". وجغرافياً فهي تُعرف بالساقية الحمراء ووادي الذهب. مع العلم أن هذه الدولة لا تحظى باعتراف الدول العربية باستثناء الجزائر. وهي، وعلى غرار دولة "أرض الصومال"، ليست عضوا في جامعة الدول العربية. وعلى عكس البلدان الثلاث (الجزائر، المغرب، موريتانيا) المجاورة لها نظريا، فإن اسم هذه الدولة يحوي ضمنيا هويتها (العربية) كما يحوي أيضا ملامحها السياسية (الجمهورية.. الديمقراطية) والجغرافية (الصحراوية). ولم يفت دستورها، المعدل في آب/أغسطس 1995، أن يحدد الانتماء الحضاري لها وذلك عبر المادة الخامسة التي تقول أن "الإسلام دين الدولة ومصدر القوانين". وعبر المادة السابعة التي تشير إلى كون "اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية". من ناحيته، ينحو الدستور الموريتاني، الصادر في 1991 والمعدل في 2006، نفس منحى الدستور المغربي، حيث نقرأ في مادته الأولى "موريتانيا جمهورية إسلامية لا تتجزأ، ديمقراطية واجتماعية". وأيضا مثل المغرب لا تدخل العروبة كمكون أساسي للهوية، ولعل للتنوع العرقي في موريتانيا دوره في هذا الخيار. ويتبين ذلك في ما جاء ضمن نفس المادة: "تضمن الجمهورية لكافة المواطنين المساواة أمام القانون دون تمييز في الأصل والعرق والجنس والمكانة الاجتماعية. يعاقب القانون كل دعاية إقليمية ذات طابع عنصري أو عرقي". ويتأكد هذا المنحى في المادة السادسة المتعلقة باللغة حيث لا تنفرد العربية بصفة الوطنية وإنما تشاركها فيها ثلاث لغات أخرى إفريقية. حيث نقرأ "اللغات الوطنية هي العربية والبولارية والسوننكية والولفية". ومع ذلك ينهي الدستور هذه المادة بالعبارة التالية "اللغة الرسمية هي العربية". وتجدر الإشارة إلى أن تعديلا جديدا لهذا الدستور ما يزال إلى حد كتابة هذا العرض، محل نقاش في البرلمان وينص هذا التعديل فيما ينص على "تعزيز الوحدة الوطنية والإقرار بالتعددية الإثنية والتأكيد على ترسيم اللغة العربية مع الإقرار باللغات الأخرى". مع ما تبقى من الدساتير "العربية" وحسب مستوى توافق هوية دولها مع شروط العضوية في جامعة الدول العربية نكون قد تخطينا تقريبا الإطار الإيديولوجي والإطار الحضاري المشار إليهما سابقا، لكي نصل إلى الإطار الإقليمي لهذا الانتماء الجيوسياسي. ضمن هذا الإطار تدخل دساتير السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر. ولعل التركيبة الإثنية المتنوعة لشعوب هذه الدول، المنتمية ترابيا إلى إفريقيا، جعلت من دساتيرها ترجمة ليس لهويتها الإفريقية، كما فعلت دول المغرب العربي، وإنما فقط لهويتها الوطنية المتنوعة. ومن المفارقات هو أن السودان ورغم وزنه الإقليمي وعمق روابطه التاريخية بشماله المصري خاصة وبشرقه السعودي وبغربه الليبي، فإن دستوره يخلو من ذكر أي انتماء إلى الفضاء الثقافي العربي إلا في ما يخص الإسلام كشريعة. وعلى غرار الدستور الصومالي تخلو جميع بنود الدستور السوداني من ذكر لغة البلاد سوى كانت رسمية أو وطنية، بينما لم يفت دستور جيبوتي (المسمى "القانون الدستوري لعام 1977") على ذكر ذلك في مادته الأولى التي تنص على رسمية اللغة العربية مع الفرنسية، كما يلي "أعلن عن قيام جمهورية جيبوتي واحدة غير قابلة للتجزئة مستقلة وذات سيادة . شعارها: الوحدة, المساواة, السلام. ولغاتها الرسمية: العربية والفرنسية". ونفس الأمر بالنسبة لدستور "الجمهورية الاتحادية جزر القمر الإسلامية" لعام 1996 والذي اقترح الرئيس أحمد عبد الله سامبي تعديلا له سنة 2001. حيث نجد ثلاث لغات رسمية والعربية ثالثتها في الترتيب. ويتبين هذا في المادة الثانية التي تقول "شعار الجمهورية هو الوحدة، العدالة، التقدم. واللغات الرسمية هي مايوت، وهي اللغة الوطنية والفرنسية والعربية". أما بالنسبة للسودان الذي انتهى به المصير مؤخرا إلى انفصال جنوبه عنه، فإننا نجد في الفصل الأول من الباب الأول لـ"دستور جمهورية السودان الانتقالي" الذي تم اعتماده "قانوناً أعلى" بعد توقيع الأطراف السودانية المتنازعة على اتفاقية القاهرة في يونيو 2005، تعريفا لـ"طبيعة الدولة" كما يلي:"جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة، وهى دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان". والملاحظ أن هذا التعريف المؤسساتي للسودان لا يعطي محتوى محدد للهوية كمعطى ثقافي وإنما يقترح هوية متعددة الثقافات، أو قل يقترح هويات ثقافية متعددة. ورغم تأكيد الفصل الثالث من نفس الباب على ما ورد في الفصل الأول، حيث نقرأ "السودان وطن واحد جامع تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام" فإن هذا لم يمنع من انفصام هذه الوحدة السودانية بانفصال الجنوب عن الشمال، بل وسيتقزم السودان أكثر إذا ما سعى غربه (دارفور) للانفصال هو الآخر. شبح هذه "الصمولة" الذي يهدد السودان، وهو مصطلح يراد منه التعبير عن حالة التشرذم والتناحر، إنما اشتق من اسم الصومال، وهي الدولة التي سبقت العراق والسودان بانفصال جزئها الشمالي تحت اسم دولة "أرض الصومال" وكأنها افتتحت مهزلة تلك الشعارات الواهمة التي تتخلل أولى بنود أكثرية دساتير العرب والتي تؤكد على وحدة الأرض والشعب، تماما مثلما نقرأ في المادة الأولى من دستور هذا البلد المنكوب الصادر سنة 1960 والتي تقول: "الصومال دولة مستقلة ذات سيادة وهي جمهورية ديمقراطية نيابية موحدة والشعب الصومالي شعب واحد لا يتجزأ". مع العلم أنه أوقف العمل بهذا الدستور بعد انقلاب 1969 لكن لم يعلن إلغاءه. بل ولم تتمكن الحكومة الصومالية الحالية من طرح مسودة الدستور الجديد للاستفتاء الشعبي في أغسطس/آب 2011 بسبب المصاعب الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والمناخية المتضافرة ضد إرادة الشعب الصومالي. ونختم إطار هذا الانتماء الجيوسياسي بما ورد في "الدستور العراقي الدائم" الذي تم التصويت عليه في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2005. هنا وعلى عكس دستور السودان، نلحظ أن الدستور العراقي، رغم تأكيده هو الآخر على الهوية العراقية فهو لم يغفل في المادة الثالثة من الباب الأول عن ذكر انتمائه إلى العالم الإسلامي (وهو، وكما نعلم، عالم متعدد القارات) وأنه "جزء منه". وقبل ذلك وضمن المادة نفسها، لم يحدد انتماءه العربي إلا في إطار مؤسساتي تنظيمي أي فقط باعتباره "عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها". في المجمل، استلهم هذا الدستور صياغته من أول دستور عراقي ملكي والمسمى "القانون الأساسي العراقي لعام 1925"، وشكل قطيعة إيديولوجية جذرية مع الدساتير اللاحقة المؤقتة أو المعدلة لسنوات 1958 و1963 و1968 و1970، والتي كانت في الواقع أقرب إلى بيانات عسكرية منها إلى دساتير. بين الدستور الملكي ودساتير العسكر المؤدلجين، جاء الدستور الجديد لكي يخضع التاريخ للجغرافيا وذلك في تحديده لمضمون هوية العراق، ولعل في ديباجة هذا الدستور المصاغة بأسلوب بلاغي، ما يشير إلى هذا المنحى: "نَحْنُ أبناء وادِي الرافدينِ، مَوْطِن الرُسُلِ وَالأنبياءِ، وَمَثْوىَ الأئِمَةِ الأطْهَارِ، وَمَهد الحضارةِ، وَصُنَّاع الكتابةِ، وَرواد الزراعة، وَوُضَّاع التَرقيمِ. عَلَى أرْضِنَا سُنَّ أولُ قانُونٍ وَضَعَهُ الإنْسَان، وفي وَطَنِنا خُطَّ أعْرَقُ عَهْدٍ عَادِلٍ لِسياسةِ الأوْطان، وَفَوقَ تُرابنا صَلَّى الصَحَابةُ والأولياءُ، ونَظَّرَ الفَلاسِفَةُ وَالعُلَمَاءُ، وَأبدَعَ الأُدَباءُ والشُعراءُ." من ناحية أخرى، وعلى غرار مثيليه السوداني والمغربي، أكد هذا الدستور على التعدد والتنوع حيث تقول المادة الثالثة من بابه الأول "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب" وهو ما يعني أن العراق ليس عربيا فقط أو عربيا وكرديا فقط وإنما له هويات عرقية أخرى، لم يتم تحديدها ولكن قد يمكن استبيانها عبر المادة الثانية من نفس الباب الأول حيث نقرأ "كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والأيزديين، والصابئة المندائيين" وأيضا من المادة الرابعة المتعلقة باللغة وفيها: "اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويضمن حق العراقيين بتعليم أبنائهم باللغة الأم كالتركمانية، والسريانية، والأرمينية، في المؤسسات التعليمية الحكومية". وحين نقرأ ما جاء في الفقرة الخامسة والأخيرة في هذه المادة الرابعة نفسها، من أن "لكل إقليم أو محافظةٍ اتخاذ أية لغة محلية أخرى، لغةً رسمية إضافية، إذا أقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام"، فإننا نستنتج أن هذا الإقرار الدستوري قد يفتح الشهية ليس على التنوع، لكونه قائم بالفعل، وإنما على توظيفه لغايات انفصالية مبيتة، خاصة وأن هذا التنوع العراقي له امتداداته الإقليمية وليس مقتصرا على الخارطة العراقية. دستور البلاد وعقائد العباد بعد تحديد الهوية ولغتها يلقى المشرعون العرب أنفسهم أمام مهمة أعسر وهي صياغة المقدس وإدراجه في سياق وضعي لتأسيس عقد اجتماعي. كان الرهان أصعب في البلدان التي تحتضن أكثر من دين واحد، ولكن صعوبات التشريع في هذا المجال طالت أيضا بعض البلدان ذات الدين الواحد وحتى المذهب الواحد. والسبب لا يخفى على الكثيرين وخاصة اليوم وبعد دخول تونس وليبيا مرحلة إعادة تأسيس دستوري، إذ بدأ السجال والتجاذب بين إسلاميين وعلمانيين حول حجم المكانة من عدمها والتي يمكن للشريعة أن تتبوؤها ضمن بنود الدستور المرتقب في كلي البلدين، بل ويتعقد الأمر أكثر مع مصر التي تمر بنفس المرحلة حيث الوجود القبطي الضاغط من ناحية وفوز الإسلاميين بالأغلبية البرلمانية من ناحية أخرى. واستنادا إلى نفس الدساتير المعتمدة في الجزء السابق من هذا العرض الذي تناول الهوية واللغة، نتناول هنا جانب الهوية والعقيدة. وبديهي أن مقاربات مختلف الدساتير لمسألة العقيدة أو الدين تختلف بشكل واضح بل وجذري أحيانا. تبدأ من خلو تام في الدستور لأي مادة تحدد دين الدولة، كما هو الحال في الدستور اللبناني الذي اكتفي (في المقدمة المضافة سنة 1990) باحترام "حرية الرأي والمعتقد" بعد أن أكد فقط على الهوية العربية أو دستور جيبوتي الذي اكتفى أيضا (في مادته الأولى) "باحترام جميع العقائد"، حتى نصل إلى الدساتير التي استفاضت في موضوع الديانة وعلاقتها بالشعب وبالدولة ومنها مثلا دستوري السعودية وجزر القمر. بين هذا وذاك، خصصت باقي الدساتير مادة واحدة لهذا الغرض وصيغة واحدة له وهي "الإسلام دين الدولة" وأحيانا "دين الدولة الإسلام". وكان هذا بالنسبة إلى دستور الأردن (المادة 2 من الباب الأول) وليبيا (المادة 5 من الباب الأول) والمغرب (الفصل السادس من التصدير الذي يعرف أيضا في بدايته أن المغرب "دولة إسلامية") والصومال (المادة 1 من الباب الأول) وتعبير "الإسلام دينها" حسب دستور تونس (الفصل 1 من الباب الأول). بينما أضافت دساتير أخرى إلى هذه الصيغة عبارات أخرى مكملة تحدد دور الدين وعلاقته بالدولة كمصدر تشريعي. ومن ذلك دستور الكويت الذي يضيف عبارة "والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع" (المادة 2 من الباب الأول) ودستور اليمن الذي أضاف إلى ذلك مادة مستقلة تتضمن عبارة "الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات" (المادة 3 من الباب الأول) وقبل ذلك أكد في مادته الأولى أن "الجمهورية اليمنية دولة عربية إسلامية" وأن "الشعب اليمني جزء من الأمة العربية والإسلامية". ويضيف الدستور المصري في المادة الثانية "..ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". وبنفس الصيغة تقريبا يقول دستور الإمارات العربية المتحدة في مادته السابعة "الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيه". أما دستور البحرين، فيضيف في مادته الثانية "..والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع" وذلك بعد أن أكد في توطئته بأن الشعب البحريني معلن "تمسكه بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجا" وأن "مملكة البحرين عربية إسلامية". والأمر نفسه مع دستور سلطنة عمان حين يضيف في مادته الثانية "..والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع الأولى" وقبل ذلك في مادته الأولى نقرأ "سلطنة عمان دولة عربية إسلامية". ويستعمل الدستور القطري نفس الصيغة التونسية "دينها الإسلام" في معرض تعريفه لقطر ضمن مادته الأولى مضيفا إليها "..والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي لتشريعاتها". وينفرد دستور موريتانيا على المستوى المغاربي بتشديده على الهوية الدينية الإسلامية والتوسع في وصفها، ولا عجب في ذلك من "شنقيط" (اسم موريتانيا القديم) التي كانت مهدا لدولة المرابطين قبل نحو عشرة قرون. تؤكد مادته الأولى على أن "موريتانيا جمهورية إسلامية لا تتجزأ.." ولا تكتفي مادته الخامسة بذكر دين الدولة فقط وإنما الشعب أيضا وتضعه قبل الدولة، فنقرأ "الإسلام دين الشعب والدولة". وعن الشعب تقول الديباجة أنه "يعلن، اعتبارا منه لقيمه الروحية وإشعاعه الحضاري، تمسكه بالدين الإسلامي الحنيف.." وتضيف "حرصا منه على خلق الظروف الثابتة لنمو اجتماعي منسجم، فإنه يحترم أحكام الدين الإسلامي، المصدر الوحيد للقانون.."، ومن هذه الأحكام مكانة الأسرة في المجتمع، حيث يضيف بالقول "يعلن الشعب الموريتاني على وجه الخصوص الضمان الأكيد للحقوق.. المتعلقة بالأسرة كخلية أساسية للمجتمع الإسلامي". لهذا تستبق الهوية الدينية الهوية العرقية، ولا أدل على ذلك ما نقرأه في نفس الديباجة "الشعب الموريتاني كشعب مسلم عربي إفريقي.." هذه الأسبقية للإسلام نجدها أيضا في دستور الجزائر الذي تتضمن مادته الثانية كذلك صيغة "الإسلام دين الدولة"، ولكن تذهب ديباجته إلى ما هو أبعد فتبدأ بهذا التعريف "إن الجزائر، أرض الإسلام، وجزء..الخ" حتى تصل إلى تحديد ثقافة الجزائر، "وقيمها، والمكونات الأساسية لهويتها"، وهي (لاحظ الترتيب) "الإسلام والعروبة والأمازيغية". هذه المرجعية الإسلامية تطال أيضا المؤسسات، حيث يضع الدستور في مادته التاسعة، موانع "لا يجوز للمؤسسات أن تقوم" بها، ومن ضمنها "السلوك المخالف للخُلُق الإسلامي وقيم ثورة نوفمبر". رغم التنوع الروحي على الساحة الفلسطينية لم يشذ مشروع دستور دولة فلسطين عن القاعدة العربية في جعل الإسلام دين الدولة، إذ يقول في مادته الخامسة بصيغة مختلفة "..الإسلام هو الدين الرسمي في فلسطين". هذه القاعدة التي تستند أساسا على عامل الأغلبية العددية، لم تمنع هذا الدستور من ذكر الأديان الأخرى، إذ يضيف في نفس المادة "وللمسيحية ولسائر الرسالات السماوية (ولعله يقصد اليهودية!) قدسيتها واحترامها". "ويكفل الدستور للمواطنين أي كانت عقيدتهم الدينية، المساواة في الحقوق والواجبات". وتأتي المادة السابعة من مشروع هذا الدستور لتؤكد على مرجعية الإسلام التشريعية للدولة، بينما تبقي لأتباع ديانات أخرى تنظيم مجال أحوالهم الشخصية والدينية. ونقرأ في هذه المادة "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. ولأتباع الرسالات السماوية، تنظيم أحوالهم الشخصية وشؤونهم الدينية وفقا لشرائِعهم ومللهم الدينية في إطار القانون، وبما يحفظ وحدة الشعب الفلسطيني واستقلاله". الاستثناء العربي في هذا السياق هو دستور سوريا. فعوض "دين الدولة الإسلام" كما رأينا في الدساتير السابق ذكرها، نقرأ في المادة الثالثة من الباب الأول للدستور السوري أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام". وسواء أكان القصد هو أن الدولة مختصرة في شخص رئيس الجمهورية، ويكون دين الدولة بالتالي هو أيضا الإسلام، أو كان القصد شخص الرئيس فقط كفرد، والذي يعني أن لا حق لسوري من طائفة دينية أخرى، أن يكون رئيسا، فإنه في كلتا الحالتين، تتنافى هذه المادة مع علمانية حزب البعث الحاكم، خاصة وأنه مذكور في المادة 8 من نفس هذا الدستور بكونه "الحزب القائد في المجتمع والدولة" (وهي مادة تم إلغاؤها تحت ضغط الشارع قبل أسابيع قليلة فقط). وكان على "المشرع" السوري، السابق واللاحق، والذي استطاع سنة 2000 أن يعدل الدستور في ربع ساعة ويخفض سن الترشح للرئاسة من 40 سنة إلى 34 سنة (بالضبط عمر بشار الأسد عام ذاك) ألا تفوته إضافة "وأن يكون من الطائفة العلوية" إلى عبارة "دين رئيس الجمهورية الإسلام". ألم تتكبد سوريا أربعين سنة رئاسة حصرا من طرف هذه الطائفة؟ ويستمر التعارض مع علمانية البعث مع ما جاء في المادة الثانية من نفس الدستور التي تقول "الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع" دون تحديد عن أي المذاهب الفقهية هو المقصود (وسوريا تضم من المسلمين سنة وشيعة وعلوية ودروز وإسماعيلية). غير أن المادة الخامسة والثلاثون قد تتدارك بعض الشيء هذا التعارض حين تؤكد على أن: "حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان" وأن "تكفل الدولة حرية القيام بجميع الشعائر الدينية على أن لا يخل ذلك بالنظام العام". مع الدستور العراقي، وبعد زوال نظام حزب البعث، لم يكن بد من تحديد هوية العراق دينيا رغم نزوع بعض المشرعين العراقيين نحو دولة ديمقراطية علمانية كفيلة في رأيهم بتوحيد كافة العراقيين. وما يقترحه الدستور الجديد لا يختلف في الواقع عن بعض ما جاء في دساتير عربية أخرى. ففي المادة الثانية نقرأ ما قد يوحي بأننا أمام دولة دينية ذات مذهب إسلامي واحد وليس مذهبين سائدين (شيعة وسنة) اللهم إلا إذا كانت الغاية من ذلك محو الفارق الطائفي السني الشيعي، وهذا أمر محمود ولكنه غير دقيق على اعتبار أن لكل طائفة مرجعيتها الفقهية وبالتالي التشريعية. تقول هذه المادة: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدرٌ أساس للتشريع" ثم تضيف "لا يجوز سن قانونٍ يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام". ثم تؤكد أن"هذا الدستور يضمن الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والأيزديين، والصابئة المندائيين." في كل الأحوال صياغة هذه المادة على مثاليتها لا تعكس الواقع العراقي المعقد والمشحون طائفيا بفعل التجاذب الداخلي والإقليمي. ولكن قد يضمن أساسا للتماسك الوطني المانع لشبح التقسيم على خلفية طائفية. استثناء آخر في سياق تحديد دين الدولة يأتي مع دستور السودان الانتقالي الذي لا يتضمن مادة مستقلة تحدد للدولة دينا ما. ولعل ما جاء في النقطة الثانية من الديباجة التي تقول "الأديان والمعتقدات والتقاليد والأعراف هي مصدر القوة المعنوية والإلهام للشعب السوداني" والتي كتبت سنة 2005 أي قبل نحو خمس سنوات من انفصال الجنوب (المسيحي-الوثني)، تبرر غياب هذا التحديد. وحتى المادة الأولى من الباب الخامس (تحت عنوان "مصادر التشريع") والتي تقول "تكون الشريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشريعات التي تُسن على المستوي القومي وتُطبق على ولايات شمال السودان"، فهي ورغم تأكيدها على الإسلام كمرجعية تشريعية لعموم السودان، تقول أن تطبيقها لا يسري إلا على شمال السودان. اليوم وبعد الانفصال قد يتضمن الدستور النهائي القادم مادة تؤكد على إسلامية دولة شمال السودان. وقبل أن ننهي هذا العرض بما جاء في الدستور السعودي، نعرج على أرخبيل جزر القمر التي تعلن مسبقا عن إسلامها عبر اسمها الرسمي وهو جمهورية القمر الاتحادية الإسلامية المتحدة. وبقدر ما تسعى هذه الدولة للانتماء إلى الفضاء العربي بقدر ما تؤكد على إسلامها كقاسم مشترك مع الدول العربية. ويتبين ذلك أيضا من خلال دستورها المعدل سنة 2001 الذي يبدو أنه كتب باللغة الفرنسية ولم يترجم رسميا إلى العربية. ونقرأ في ديباجته أن "الشعب القمري يؤكد رسميا إرادته في أن يجعل من الإسلام مصدر استلهام دائم للمبادئ والقوانين الحاكمة للاتحاد". لا غرابة في أن يكون "دستور" المملكة العربية السعودية أكثر الدساتير العربية إفصاحا في تحديد موقع الدين الإسلامي من الدولة. وهذا الإفصاح يصل إلى حد ألا يسمى الدستور دستورا وإنما "نظاما أساسيا للحكم" وأن يكون القرآن الكريم هو ذاته الدستور. هذا بالضبط ما ورد في ما تم إقراره قبل عشرين سنة (1992) وهو "النظام الأساسي للحكم"، الذي يعادل الدستور في بلد آخر، ونقرأ فيه أن "المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ؛ دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله ولغتها هي اللغة العربية..." وعلى غرار الدساتير الأخرى يتضمن هذا "النظام" أبوابا ومواد تنقسم حسب المجالات المعهودة في كافة الدساتير الوضعية، لكن في ما يتعلق بالعقيدة فلم يخصص لها سوى المواد الثلاثة الأولى من الباب الأول تحت عنوان "مبادئ عامة". فبعد المادة الأولى السابق ذكرها تأتي المادة الثانية لكي تضيف ما لا نجده في أي دستور عربي آخر، وهي تخص الأعياد والتقويم. وجاء فيها ما يلي "عيدا الدولة.. هما عيد الفطر والأضحى.. وتقويمها هو التقويم الهجري". وخلافا لبعض الدول العربية والإسلامية الأخرى، نلاحظ عدم اعتبار ذكرى المولد النبوي الشريف ورأس السنة الهجرية عيدين إسلاميين. أما التأكيد على التقويم الهجري فيأتي وكأنه رد على استعمال التقويم الميلادي، كتقويم رسمي من طرف دول عربية إسلامية أخرى بما فيها تلك التي لا وجود لمسيحيين فيها، ومنها بعض دول المغرب العربي. أما المادة الثالثة والتي يشترك في موضوعها هذا "النظام الأساسي" السعودي مع غالبية الدساتير الوضعية فهي تتناول عَلَمُ الدولة. وهو العَلَم الذي بدأ استخدامه منذ سنة 1973، وكان من تصميم مصري لجأ إلى المملكة هربا من المستعمر الانجليزي. ونقرأ في هذه المادة "يكون عَلَم الدولة كما يلي "أ- لونه أخضر./ ب- عرضه يساوي ثلثي طوله. / ج- تتوسطه كلمة -لا إله إلا الله محمد رسول الله- تحتها سيف مسلول.. ولا ينكس العلم أبداً". وتجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى حظر تنكيس هذا العلم، هناك حظر سعودي آخر غير مذكور في هذا "النظام الأساسي" ولكنه معلن رسميا وهو حظر "العَلَم الأُفقي"، أي أن يبقى العمود الحامل للعَلَم في وضع عامودي دائما وليس أفقي وذلك كي لا يصبح العَلَم نفسه في وضع عمودي وبالتالي يصبح السيف مُنَكّسا والشّهادة صعبة القراءة. ولا تشترك مع السعودية في هذا الحظر سوى ثلاثة دول في العالم، اثنتان إسلاميتان وهما باكستان وسريلانكا والثالثة البرازيل. وقد يجد المشرع السعودي نفسه مضطرا إلى تغيير هذا العلم وبالتالي إلى تعديل الدستور، وذلك تحت ضغط مطالب أوساط سعودية عديدة كانت قد لاحظت عدم احترام "حظر العلم الأفقي" خاصة في المناسبات الرياضية الدولية سواء من قبل منظميها أو من جمهورها. أخيرا إذا كان القانون "يفرق بين البشر ويضاعف من خلافاتهم" كما قال الفنان الفرنسي الساخر "بيار داك" قبل أربعين سنة، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الدستور الذي هو قانون القوانين؟ وهل يمكن للمشرعين المنتخبين ديمقراطيا في البلدان الخارجة للتو من ربقة الطغيان، أن يتوصلوا إلى حسم خلافات الهويات والعقائد في مجتمعهم وعبور الباب الدستوري الأول بسلاسة وسلام؟ ذلك هو الرهان. محمد الرفرافي |
18:10 Publié dans En arabe | Lien permanent | Commentaires (0) | Facebook | |
mercredi, 23 février 2011
Soucis de terroir natal (7)
2011-02-21
نشر في صحيفة القدس العربي اللندنية |
لم يكون غريبا بالنسبة لي أن تُحظى شخصية وزير داخلية على يديك بمثل هذه الشعبية الاستثنائية في بلد عانى على مدى عقود من سطوة هذه الوزارة. هذه الشعبية التي عكسها على نحو خاص تشكيل "مجموعات" (غروبات، كما يقول شباب تونس) عديدة على شبكة الفايسبوك تدعو إلى مساندتك، وتحمل أسماء مثل "كلنا مع فرحات الراجحي كي ينظف الداخلية"، "شكراً سي فرحات الراجحي"، "فرحات الراجحي-أمان-شفافية–ديمقراطية"، "مع رشيد عمار و فرحات الراجحي للحفاظ على الثورة"، "فرحات الراجحي رئيسا للجمهورية".. قد جاءت بعد أن سبقك وزير داخلية نال من السخط الشعبي ما نال، ولكن جاءت أيضا وبشكل أخص بعد أن كشفْتَ أنت بنفسك، تلفزيونيا، على الملأ، عن المحاولة الغريبة بالاعتداء عليك، غداة تعيينك، داخل وزارتك على يد مئات من ضباط وأعوان الأمن المُورّطين عُضويا في شبكة المافيا الرئاسية، وكيف هربتَ، كأيِّ مواطن يهرب في مظاهرة من البطش الأمني، من مكتبك الوزاري بحماية استثنائية من "فرقة مقاومة الإرهاب" (وهي لأول مرة تكون جديرة بهذا التسمية). إلى حد أن قال أحدهم "كُنّا سابقا نخاف من وزير الداخلية واليوم صرنا نخاف عليه". وما زاد في تكريس هذه الشعبية، خصوصا لدى البسطاء من عامة الشعب، إشارتك ضاحكاً إلى عملية سطو هؤلاء أثناء هروبك على معطفك ونظّارتك وهاتفك الجوال، فاضحا بذلك مدى التعاسة التي لحقت بجهاز دولة وقد تحول إلى وكر عصابات. من ناحيتي، وعلى عكس جُلِّ من لا يعرفك جيدا بمن فيهم من يُشكّك في تلِقائيتك، أقول أن الشيء من مأتاه لا يستغرب. ذلك أن الصورة التي بقيت أحملها عنك منذ زمالتنا الدراسية على مقاعد "معهد ابن شرف" في أواخر الستينات، هي صورة ذاك الفتى النحيف والوَدود والضاحك دوما. وشقاوتنا البريئة في ذلك السن، لم تمنع من أن ألمس لديك في ما بعد وقبيل تخرجك من كلية الحقوق، نضجا سياسيا كافيا بإبرازك، أثناء حوار عابر بيننا، لمحاسن النظام البرلماني حتى ولو كان ملكيا دستوريا، كنتُ في تلك الفترة، كمثقف وإعلامي مستقل، أتهيأ لمغادرة تونس نحو منفى عربي ثم أوروبي، هرباً من سطوة الخطاب البورقيبي على المشهد الثقافي والإعلامي. ولم أستكمل فكرتي السابقة عنك إلا قبل ما يزيد عن عشر سنوات خَلَت، حين التقينا صدفة ذات صباح صيفي، فعرفت أنك وعلى غرار أغلبية خريجي معهد ابن شرف، قد اخترت سلك القضاء لحياتك المهنية. إلى هنا، لا شيء يبرر ذكر ما سبق ذكره، سوى أنّ نبأ تعيينك وزيرا لأكثر الوزارات إشكالية في ظرف هو الأخطر في تاريخ تونس الحديث، قد جاء سؤالا بالأحرف الكبيرة على الأقل في ذهن شخصٍ مثلي اعتاد مِهنياً كصحافي على طرح الأسئلة وليس الأجوبة. ما الذي دفع محمد الغنوشي أو بالأحرى ما الذي جعلك تقبل أن تكون الرجل المناسب في المكان غير المناسب؟ قبل نحو ستة عقود جَلَب جوزيف ستالين إلى موسكو المهندس لاَفْرِينْتِي بافلوفيتش بِـيـرْيـاَ واختاره بحكم نقائه الأيديولوجي لقيادة الأمن السوفيتي وجهاز البوليس السري بهدف تطهير الحزب الشيوعي والمؤسسات الحكومية من الخصوم. وكوفئ بعد ذلك في عهد خروتشيف بالإعدام رميا بالرصاص. فهل بسبب نقائك الأخلاقي كقاض، اختارك الغنوشي لتطهير جهاز الأمن التونسي؟ علما أنه إذا كان للغنوشي "ستالينية" فهي تكمن في ولائه المستمر والمستتر (وأحيانا العلني) لـ"ستالينية" أمن نظام بن علي؟ قد يعتبرك البعض مثل الصابون، النظيف والمُنَظِّف في آن واحد، ومُهمتك هي، وبحكم خبرتك القضائية، تنظيف جهاز الأمن من عصابات بن علي والطرابلسية، لا غير. وهكذا تكون مَنَحْت عُذْريةً لحكومة نزلت من رحِمِ دولة بن علي الدامية والدائمة عبر حكومة التفاف لاوطني. لكن ماذا عن تنظيف الحكومة من نفسها؟ ومن بعض أعضائها الذين قيل عنهم ماسونيين أو من أتباع المحفل المتوسطي الصهيو-ساركوزي؟ وأيضا من المنضمين إليها من قادة أحزاب الولاء الطفيلية المحسوبة على يسار هو أقرب إلى العسر منه إلى اليسر؟ ذكرت بنفسك أنك تقتسم في وزارتك المكتب مع رئيس أركان الجيش التونسي رشيد عمار، الذي سبقك في امتلاك قلوب ثوار تونس ومريديهم (حتى أن بعض المصريين المتظاهرين الأسبوع الماضي في وسط ميدان التحرير بالقاهرة تساءلوا: "أين هو رشيد عمار" ؟ أي النسخة المصرية منه)، وذلك بهدف إحكام السيطرة على الوضع الأمني الداخلي، فهل لك أن تسأله لماذا لم يكمل مسيرة الثورة التي باركها وتحاشى مواجهتها؟ لماذا لم يعمد مباشرة إلى إقالة حكومة الغنوشي وتكليف حكومة كفاءات وحل البرلمان ومجلس المستشارين وتعطيل العمل بالدستور (الذي أصبح على مقاس بن علي)، تماما مثلما فعل زميله المصري في ما بعد؟ لن يكون عمار بـحاجة إلى رجل قانون غيرك أنت لمساعدته على تنفيذ هذه المهمة التي صار يطالبه بها ليس الشارع الثائر فقط وإنما أيضا مختلف أحزاب المعارضة الحقيقية ومنظمات المجتمع المدني. فهل لك بإقناعه بهذا الخيار الأقرب لتطلعات الثورة التي تعهد سابقا بحمايتها؟ صحيح أنك كوزير فأنت مطالب بأن تتحرك بضوء أخضر من رئيس الحكومة. غير أن نقاوتك الأخلاقية وثقافتك القانونية ووفائك لوطنك، تحتم عليك الابتعاد ما أمكن عن مشروع حكومة الغنوشي الذي ليس في صميمه سوى مشروع لإعادة إنتاج نفس النظام، ناقص بن علي والطرابلسية فقط، على أن يكون مُلَبِّياً لكافة تعهداته الغربية السابقة، تماما مثلما ترْجَمَتها تحركات أحمد ونيس وزير الخارجية المستقيل رغماً عنه، أو تصريحات نجيب الشابي وزير التنمية الداخلية، المُهدد هو الآخر بتفاقم الغضب الشعبي عليه. ألم يأتيك حديث الشارع بشعار من نوع "العصابة هي هي والحكومة مسرحية"؟ أنت الذي انتقلت عبر مختلف محاكم الاستئناف التي ترأستها وتخصصت في القانون الجزائي، لا أراك بعيدا تماما عن نبض الشارع. وربما مبادرتك في تخصيص صفحة فايسبوك لوزارة الداخلية هي بمثابة السعى لجس هذا النبض بشكل مباشر ودائم وموثق. ما المانع من أن تستفيد، لكي تُفيد تونس وثورتها، من التعامل مع من له نفس تكوينك القانوني وتجربتك كوزير في الداخلية، وأقصد المعارض التاريخي أحمد المستيري؟ وهو الذي بدأ في معارضة بورقيبة في نفس السنة التي التحقت أنت بها بكلية الحقوق. إن إجماع كثير من الأوساط المعارضة والمستقلة حول هذا الرجل في قدرته على تأمين مرحلة انتقالية سليمة تضمن عبر ترؤسه المأمول لحكومة كفاءات، مسارَ الثورة وأهدافَها، إن كُنتَ مستعدّا لتبنِّيه فإنّ هذا الإجماع من شأنه أن يجعلك في موقع أكثر تماسكا وصلابة في تعاملك مع رئيس الأركان الذي وحده الكفيل بتأمين أي تحرك راديكالي ضد مؤسسات النظام الموروث بما في ذلك الخلايا النائمة من عصابة حزب التجمع الحاكم في الخفاء، الذي علقت أنت نشاطه كمرحلة أولى نحو حله قضائيا. وهنا لابد أن أنوه بهذا الإجراء المرتقب لسبب أن حزب التجمع الدستوري هذا لم يفقد صلاحيته حاضرا وإنما في الواقع فقدها منذ الاستقلال، أي بعد أن أنجز مهامه وحقق أهدافه في التحرير الوطني وفي وضع دستور، انتهى كحزب تحريري وتحول مع بورقيبة إلى جهاز دعائي وتعبوي مع تغيير اسمه تماشيا مع تجارب سياسية متلاحقة وفاشلة مثل الاشتراكية في الستينات ثم الكومبرادورية في السبعينات التي تحول أيضا خلالها إلى أداة قمع للعروبيين وللشيوعيين عبر ميليشيات ضاربة.ثم مع بن علي صار في العقد الأخير "تجمعا" مافيوزيا ومن ثم إجراميا تلوثت أيادي أصحابه وما زالت، بدماء أبناء الشعب التونسي المسالم. قبل أن أختم، اسمح لي صديقي الوزير، أن أنقل إليك رجائي ككاتب وكإعلامي مستقل أن تسعى من موقع مسؤوليتك الوزارية ألا تمس حرية واستقلالية أي مسعى تنظيمي يمثل كُتّاب تونس وإعلامييها وأن تلغي جهاز أمن الدولة والبوليس السياسي، لتعارضهما الكامل مع أهداف الثورة الوليدة. وإن كان لابد من جهاز أمن دولة فليقتصر على تتبع الجواسيس من الأجانب وليس أصحاب الرأي من أبناء تونس المفترض خلو أقبية الداخلية وسجون البلاد منهم. ثم أرجو تفسيرا من وزارتك حول هذا الأمر المريب والمنشور في صحف تونس كما يلي: "ليست صدفة أن "الحارقين" إلى إيطاليا تم نقلهم كلهم (حسب تأكيدات السلطات الإيطالية) بقوارب ليبية وأن 5000 منهم طلبوا اللجوء السياسي وليست صدفة أن تكون هذه العمليات متزامنة مع وجود ليلى بن علي في ليبيا". هل هي محاولة "طرابلسية"-ليبية لإفراغ تونس من شبابها؟ أم مناورة لإشغال الحكومة الحالية بملفات جانبية ذات أبعاد أجنبية؟ ومن ناحية أخرى، لا أميل شخصيا نحو منع أي جهة إعلامية مهما كانت. ورغم قبولي عن مضض بوجود قناة تلفزيونية تبدو لي مشبوهة رغم شعارها الجذاب بكونها مغاربية، في حين أن ربع ميزانيتها تعود لرئيس حكومة إيطاليا سيء السمعة، برلسكوني وأقصد بذلك قناة "نِسْمة"، فإن كل ما أطلبه منك هو ألا تسايرها في سياستها اللغوية الهجينة (فرانكو آراب) حين تتم دعوتك لإحدى برامجها الحوارية. وقد سبق أن تابعتُ عبرها لقاءها معك، فوجدتك تستعمل فيه بعض العبارات وأحيانا الجمل باللغة الفرنسية دون أن تكون في حاجة إلى ذلك. باعتبارك وزيرا يتمتع بشعبية استثنائية، واحتراما للدستور القائم (ببنده الأول: تونس دولة.. الإسلام دينها والعربية لغتها) فإنه من الأنسب لوزير مثلك إعطاء المثل لضيوف هذه القناة ولمنشطيها وتمكين عامة الشعب من فهم ما تقوله، وأُذكّرك أن تعليمنا الثانوي الذي كُنّا تلقيناه أنا وأنت كان مُعَرّبا بالكامل، كتجربة تربوية استثنائية اختص بها في الستينات معهدنا وحده. أخيرا، وبعد كل الذي سبق، يبقى التساؤل عالقا: إذا كنت يا صديقي الوزير مقتنعا بأن الثورة قد أنجزت مهامها وحققت جميع أهدافها وأن حكومة الغنوشي التي بحوزتك حقيبة داخليتها، هي حكومية وطنية لا غبار عليها ولا على ملفاتها السرية والعلنية، وأن المؤسسات المالية والبنكية والمؤسسات الإعلامية وكذلك دوائر وزارتك المركزية والمحلية، جميعها خالية من ذوي السوابق "الطرابلسية"، فإني أدعوك إلى تجاهل كل ما سبق ذكره في هذا الخطاب، مُتمنّيا لك بصدق سلامتك الشخصية من توابع انفجار شعبي أراه يلوح في الأفق عبر ما أرصده من أنباء وتصريحات ومواقف متعددة الجهات وسيكون في هذه المرة أكثر ثباتا وتنظيما نظرا لتمتعه بتجاوب ورعاية من مختلف أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني... أما إذا كنت ترى غير ذلك، فإني أدعوك أيضا بصدق الصديق، أن تحسم أمرك، وأن تُنقذ ما نِلْته من رصيد شعبي لتوظيفه في سيرورة مخالفة، لا تكون فيها مجرد أداة تنظيف أو قطعة غيار جديدة في ماكينة صدئة متآكلة، وإنما عنصرا فاعلا ضمن قيادة وطنية نظيفة وحقيقية نحو تغيير جذري يضع حصان الثورة الجامح أمام عربتها ويدخل تونس بشعبها وشهدائها عالم الحرية والديمقراطية، جاعلا منها النموذج الأول والناجح الذي صدرت نسخته المصرية الفاخرة فوق أرض الكنانة ومنها إلى الساحات العربية المتطلعة إلى نفس المصير المضيء. |
02:28 Publié dans actu, En arabe | Lien permanent | Commentaires (1) | Facebook | |